المنهج النقدي في كتاب ظاهرة الشعر الحديث
تمهيـــد:
من المعروف أن المنهج عبارة عن خطوات محددة بأهداف معينة وغايات مضبوطة، ومن ثم، فللمنهج مدخلات ومخرجات ووسائل وطرائق يمكن الانطلاق منها لاختبار فرضياتنا وتحقيق أهدافنا. فمن الصعب على المرء أن ينجز مجموعة من الأعمال والمشاريع بدون أن يضع لنفسه خطة إستراتيجية ممنهجة للوصول إلى الأهداف المنشودة. كما أن المنهج النقدي الأدبي هو عبارة عن خطة مرسومة يسترشد بها الناقد أثناء تقويمه للعمل الأدبي، فإما يتعامل مع الأثر الأدبي والإبداعي بطريقة ذاتية انطباعية ذوقية، وإما يعتمد على طرائق علمية وصفية موضوعية لتفادي الأحكام المعيارية والتقويم الذاتي التفضيلي الذي يتغير من موقف سياقي لآخر.
ومن هنا، فالنقد نوعان: نقد وصفي علمي ونقد معياري تقويمي. كما يمكن الحديث عن منهجين نقديين: منهج يركز على النص من الداخل كالمنهج البنيوي والسيميوطيقي، ومنهج يركز على الخارج كالمنهج التاريخي والاجتماعي والمنهج النفسي.
ومن المعروف جيدا أن النقد الأدبي مر بعدة مراحل: مرحلة المؤلف، ومرحلة البيان، ومرحلة النص، ومرحلة المرجع، ومرحلة الذوق، ومرحلة القارئ.
وسنحاول في هذه الدراسة أن نبين طبيعة المنهج النقدي لدى الباحث والناقد المغربي أحمد المجاطي من خلال كتابه" ظاهرة الشعر الحديث".
1/ منهج الظواهر والقضايا:
ينطلق أحمد المعداوي من عدة مناهج متكاملة متآلفة تارة ومتراكبة متنافرة تارة أخرى في هذه الدراسة الأدبية الأكاديمية التي كانت في الأصل عملا جامعيا تقدم بها الباحث لنيل دبلوم الدراسات العليا(الماجستير) سنة 1971م تحت عنوان:" حركة الشعر الحديث بين النكبة والنكسة(1947-1967م).
ومن أهم هذه المناهج النقدية التي استعان بها الباحث في دراسته منهج " الظواهر والقضايا" الذي يتجلى واضحا من خلال عنوان الكتاب " ظاهرة الشعر الحديث"، وتقسيم الكتاب إلى مجموعة من الفصول الدراسية تتخذ طابع القضايا والظواهر الأدبية تتعلق بالشعر الحديث صياغة ودلالة ( شعر الغربة والضياع، وشعر الموت واليقظة، والشكل الجديد).
هذا، وقد تمثل هذا المنهج في المغرب الأستاذ عباس الجراري في مجموعة من كتبه، والدكتور محمد الكتاني في كتابه" الصراع بين القديم والجديد"، والدكتور عبد السلام شقور في كتابه:" الشعر المغربي في العصر المريني: قضاياه وظواهره" ، والدكتور عبد الحق المريني في كتابه:" شعر الجهاد في الأدب المغربي"، . وهذا المنهج كما هو معلوم استلهمه الدارسون المغاربة من كتابات أساتذة الأدب في الجامعة المصرية والعراقية كما عند نازك الملائكة في كتابها:" قضايا الشعر المعاصر" ، والدكتور عز الدين إسماعيل في كتابه:" الشعر العربي المعاصر: قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية"، ومحمد النويهي في كتابه:" قضية الشعر الجديد" .
ويعرف الدكتور عباس الجراري منهج الظواهر والقضايا بأنه يستعين:" بفكر نقدي يستند إلى الواقع والمعاصرة، وبجدلية وموضوعية تعتمدان على معطيات استقرائية واستنتاجات منطقية، بعيدا عن أي توثن أو معتقدية متزمتة أو موقف تبريري، إذ في ظني أنه لايمكن فصل المنهج عن المضمون كما أنه لايمكن ممارسة نقد قبلي، أي نقد سابق على المعرفة.
ويقضي محتوى المنهج عندي كذلك أن أنظر إلى تلك القضايا والظواهر من زاوية تعطي الأسبقية للتمثل العقلي على النقد التأثري، أي بنظرة فكرية عقلانية وليس على مجرد التذوق الفني النابع من الإحساس الجمالي والتأثر العاطفي والانفعال الانطباعي بالأثر المدروس. وإن كنت لا أنكر أهمية المنهج الفني وجدواه بالنسبة لنوع معين من الموضوعات، وقد سبق لي أن جربته في بعض الأبحاث، وخاصة في دراسة لي منشورة عن" فنية التعبير في شعر ابن زيدون".
وبهذا يحقق المنهج جملة أهداف، في طليعتها الكشف عن مواطن الجمال وعن الدلالات الفنية وما ينبثق عنها من حرارة يحث تحسسها على إدراك ما يتكثف تلك الدلالات من مضامين فكرية، باعتبار الجانب الفني المتمحور حول اللغة وبنائها التركيبي ظاهرا يبطن فكرا، أو أنه بعد أولى يخفي أبعادا أخرى عميقة. وبذلك تبرز قيمة الإبداع، وتبرز من خلالها كل الشحنات الشعرية والطاقات الفكرية والمضامين الإنسانية والأبعاد الصراعية سلبا وإيجابا.
كما يحقق المنهج من أهدافه إثبات الوقائع وربطها بالأسباب ووصف الظواهر وتعليلها والبحث عن بواعثها الخفية والظاهرة القريبة والبعيدة، واستخلاص العلاقات التفاعلية بينها وبين غيرها".
ومن هنا، فمنهج الظواهر والقضايا منهج صالح لدراسة مجموعة من الملامح الأدبية الكبرى والظواهر اللافتة للانتباه داخل المجتمع من النواحي الدلالية والفنية والمقصدية اعتمادا على الاستقصاء والاستقراء والارتكان إلى الوصفية والعقلانية والموضوعية دون إهمال الذاتية والذوق والأحكام المعيارية التفضيلية. ويعني هذا أن منهج الظواهر والقضايا منهج وصفي تحليلي وطريقة تفسيرية نستعين بها لدراسة السياق الخارجي والتاريخي لمعرفة إفرازات الظاهرة الأدبية ودلالاتها وصيغها التعبيرية والفنية.
وهكذا، يتبين لنا أن أحمد المجاطي في كتابه القيم قد درس شعر التفعيلة أو ما يسمى بالشعر الحديث من خلال رؤية موضوعية ورؤية فنية جمالية، فاعتبر الشعر الحديث ظاهرة تاريخية ظهرت بعد نكبة 1948م وهي في حاجة دراسة موضوعاتية وجمالية وسياقية لمعرفة هذه الظاهرة بشكل واضح وجلي إلى غاية نكسة 1967م.
2/ المنهج الفـــني:
يرتكز المنهج الفني على دراسة الجوانب الجمالية والفنية التي تتحكم في النص الأدبي، أي إن هذا المنهج لايكتفي بما هو تاريخي وبيوغرافي ومرجعي اجتماعي ونفسي، بل ينتقل من القضايا الموضوعية والسياقية إلى التعامل مع النص الأدبي من الوجهة الفنية من خلال دراسة اللغة الإبداعية والصور البلاغية وجمالية الأسلوب والبناء والتركيب وكل الظواهر الجمالية والفنية التي تساهم في خلق المتعة الفنية والشاعرية الأدبية.
ويتجلى المنهج الفني في هذه الدراسة الأدبية أثناء الحديث عن تطور اللغة في الشعر الحديث، ورصد الصورة الشعرية والأسس الموسيقية للقصيدة التفعيلية الحديثة عبر مقاربة الأوزان العروضية ودراسة القافية والزحافات والعلل وقضية التدوير. ويتجلى هذا المنهج في تحليل بعض القصائد الشعرية فنيا من خلال مقاييس لغوية وبيانية وأسلوبية جمالية كما في تحليله لقصيدة صلاح عبد الصبور:" الظل والصليب".
ويكمن المنهج الفني أيضا في تقسيم الشعر العربي الحديث إلى مدارس شعرية فنية التي حصرها الدارس في:
1- المدرسة الإحيائية المرتبطة بالنموذج التراثي؛
2- الحركة الرومانسية ذات التوجه الذاتي والتي تنقسم بدورها إلى هذه المدارس الوجدانية: مدرسة الديوان، ومدرسة أپولو، ومدرسة المهجر؛
3- حركة الشعر الحر أو الشعر الحديث أو الشعر المعاصر.
3/ المنهج التاريخي:
نقصد بالمنهج التاريخي ذلك المنهج اللانصوني الذي يقارب الظاهرة الأدبية من خلال عواملها التاريخية والسياقية لفهم الظاهرة الأدبية وتفسيرها، وغالبا ما نجد الكاتب يقدم لكتابه بإطار تاريخي قصد توضيح الظاهرة الفنية كما في تفسيره لظهور جماعة أبولو وتفسيره لظهور الشعر الحديث كما يتضح ذلك من هذه التوطئة التالية:":" كانت هزيمة الجيوش العربية سنة 1948 مفاجأة من الأمة لنفسها، وفرصة لمواجهة ذاتها مواجهة صريحة بإعادة النظر في كل مايحيط بها، سواء أكان ثقافة أم سياسة أم علاقات اجتماعية. لم يبق بين الناس، ولا في أنفسهم شيء أو قيمة لم تتجه إليها أصابع التهمة. الحقيقة الوحيدة التي استقرت في كل قلب هي مبدأ الشك، الشك بعلاقة العربي بنفسه وبما حوله، وبماضي أمته وحاضرها، حتى أوشك الشك أن ينال من علاقة العربي بربه. وأمام هذا الإيمان بمبدإ الشك بدأت الأرض تهتز تحت أقدام الوجود العربي التقليدي، ولم تعد له تلك الهيمنة القديمة على أفكار الناس وحريتهم، وبات في وسع العربي الشاعر أن يفتح نفسه للأفكار والفلسفات، والاتجاهات النقدية في الأدب والشعر، الواردة من وراء البحر،وأن يدعها تمتزج في نفسه وفكره بثقافته القومية، ليستعين بذلك كله على تحليل واقعه، والوقوف على المتناقضات والملابسات التي تكتنفه، وإدراكها إدراكا موضوعيا تتبدى من خلاله صورة الواقع الحضاري المنشود الذي نريد".
ويتمثل المنهج التاريخي أيضا في تحقيب الشعر العربي زمنيا (الشعر القديم، والشعر الإحيائي، والشعر الذاتي، والشعر الحديث) من خلال ربطه بالظروف التاريخية كربط الشعر العربي الحديث في القرن العشرين بما عرفه العالم العربي من نكسات ونكبات وحروب وهزائم كما يدل على ذلك قول الباحث الناقد بجلاء ووضوح:" وما أحسبني في حاجة للتدليل على قيمة شعر أولئك الشعراء، بالاستشهاد بشعر نزار أو غيره من الشعراء، فقد سبق أن فصلنا القول في تجربتهم الشعرية، وربطنا هذه التجربة بحركة التاريخ خلال العشرين سنة التي تفصل بين النكبة والنكسة".
وقد تأثر أحمد المجاطي في تبنيه لمنهجه التاريخي بطه حسين والعقاد وشوقي ضيف وحنا الفاخوري وعمر فروخ وعبد الله كنون ومحمد مندور...
4/ المنهج الاجتماعي
يستند المنهج الاجتماعي إلى ربط الأدب بالبيئة والمجتمع، أي إن الأدب خاضع لحتمية جبرية، ويعني هذا أن النص الأدبي مرآة تعكس المجتمع بشكل مباشر، وتلتقط تناقضات المجتمع وصراعاته الجدلية. ومن المعروف أن أحمد المجاطي من النقاد والمبدعين الذين تأثروا بالفلسفة الاشتراكية والثقافة اليسارية التي انتشرت في سنوات السبعين في العالم العربي كما عند عبد العظيم أنيس ومحمود أمين العالم وحسين مروة وجورج طرابيشي وغالي شكري وفاروق خورشيد وجلال العشري، أو ما يسمى في أدبيات النقد بأدب الالتزام كما يدل على ذلك الهوامش النصية والمراجع التي استشهد بها الناقد داخل المتن النقدي.
ومن الشواهد النصية على تبني الناقد للمنهج الاجتماعي هذا المقطع النصي:" إننا نميل إلى اعتبار حركة الشعر الحديث ظاهرة حضارية ناشئة عن رد الفعل الذي يحدث في المجتمعات عقب النكسات الكبرى، كما يؤكد ذلك علماء الاجتماع، وعلماء النفس، وفلاسفة التاريخ....
إن الشكل الجديد ثمرة جهود متواصلة لجيل من الشعراء، هو الجيل الذي عانق النكبة بكل ظروفها وأبعادها السياسية والاجتماعية والنفسية، وهي جهود لم تتوقف بعد، لأن أثر النكبة على النفوس ما فتئ يزداد ويتنوع، ويتخذ صيغا مختلفة مع مرور الزمن، وتلاحق النكسات."
ومن المؤشرات الدالة على المنهج الاجتماعي احتكام الناقد إلى مقياس الحرية والالتزام والتعبير عن قضايا المجتمع؛ مما جعله يفضل الشعر الحديث ويرجحه على باقي التيارات الأدبية والشعرية الأخرى (الإحيائية والرومانسية)؛ بسبب رفض الدارس لخاصية البكائية والحنين العاطفي، وازدراء الميل الكبير لدى الشعراء الرومانسيين إلى العزلة والاغتراب الذاتي والمكاني والمغالاة في التضخم الذاتي في أشعارهم الوجدانية.
5/ المنهج الأسطوري:
يستعمل أحمد المجاطي المنهج الأسطوري في دراسة اللاشعور الجمعي من خلال تكرار بعض القوالب الفنية والجمالية أو دراسة ظاهرة الموت والانبعاث في الحضارة العربية الإسلامية من خلال استعمال مجموعة من الرموز والأساطير الدالة على انحطاط الحضارة الإسلامية وانبلاجها من جديد.
وهذا المنهج الأسطوري تستوجبه قصائد مجموعة من الشعراء التموزيين الذين أشارت إليهم ريتا عوض في كتابها:" أسطورة الموت والانبعاث"، وهم: بدر شاكر السياب وأدونيس وخليل حاوي وعبد الوهاب البياتي. وهذا التواجد الرمزي والأسطوري هو الذي دفع المجاطي للإنصات إلى هذا المنهج كما هو جلي في هذا المقطع النقدي:" إن تمسك أدونيس بالمنهج الأسطوري على النحو الذي رأيناه في قصيدة" تيمور ومهيار" أمر واضح، في كثير من شعره الذي يدور حول معنى الحياة والموت،غير أن مفهوم التحول لم يلبث أن أفلت من إطار هذا المنهج،ليمحو المسافة، بين طرفي جدلية الحياة والموت، وليقيم عالما شعريا" لاوجود فيه بين الذات والأشياء، وبين الروح والمادة، وبين الحياة والحصاد"، ولانهاية فيه للعمليات الكيميائية بين هذه العناصر كلها، من اجل أن يتحقق النصر الكامل للحياة، الأمر الذي جعل شعره أاقل ارتباطا بحركة التاريخ العربي، وأمعن في تخطيها وتجاوزها، طمعا في إقامة حوار غريب مع زمن لم يجيء بعد، ولم يتح له أن يعرف من همومنا سوى الأحلام. وتلك سمة تميز أدونيس، في هذه الناحية، عن غيره من الشعراء المحدثين الذين ربطوا شعرهم بحركة التاريخ، دون أن يمنعهم ذلك من إقامة الحوار مع امتداد هذه الحركة في ضمير الغيب، من أمثال خليل حاوي وعبد الوهاب البياتي وبدر شاكر السياب".
ويتبين لنا من كل هذا أن المجاطي سينساق مع المنهج الأسطوري لتفكيك أساطير ورموز قصائد الشعراء التموزيين لمعرفة الثبات والتحول الحضاري الذي أصاب الوجود العربي الإسلامي:" ولكن الموت في هذا الديوان، لايحب أن يقف عند جثث البشر المحكومة عليهم بالموت، بل يجوزهم ليبسط سلطانه على الأسطورة، وما تتضمنه من نماذج أسطورية. كأنما أراد بعمله هذا أن يقتل المنهج الأسطوري الذي استفاد منه الشعراء المحدثون كثيرا، من أجل إقناعنا بأن الموت ليس سوى عبور نحو الحياة الحق.".
ومن هنا، نجد المجاطي مدفوعا لتطبيق المنهج الأسطوري للبحث عن دلالات الرموز الأسطورية الموجودة في قصائد ونصوص الشعراء المدروسين لمعرفة الرؤيا الشعرية التي تتحكم في بنية أشعارهم.
6/ المنهج التأثري:
يغلب أحمد المعداوي في دراسته الأدبية منهجا نقديا آخر ألا وهو المنهج التأثري الانطباعي الذي يعتمد على الذوق والعاطفة والاحتكام إلى الوجدان. وهذا المنهج النقدي قديم منذ العصر الجاهلي انطلق مع الأحكام الذوقية التفضيلية التي كان يصدرها الشاعر النابغة الذبياني في سوق عكاظ، ليمتد مع الرسول (صلعم) والصحابة رضوان الله عليهم إبان صدر الإسلام أثناء تقويمهم الشعر الجاهلي واستحسانهم لشعر الدعوة الإسلامية، كما سيبلغ هذا المنهج شأوه إبان الفترة العباسية مع الأصمعي و الآمدي والصولي وابن طباطبا وابن رشيق القيرواني، وسيتمثله مجموعة من النقاد في العصر الحديث كطه حسين والرافعي وعباس محمود العقاد وشوقي ضيف ومحمد مندور وميخائيل نعيمة...
ومن المعروف أن هذا المنهج يبعد المعايير العلمية والأسس التجريبية والوصفات البنيوية والسيميائية المقننة، ويلتجئ إلى الممارسة الشخصية والمران الذاتي الداخلي؛ مما يسقط صاحب هذا المنهج في بعض الأحيان في التناقض وتعميم الأحكام ونقص في التعليل واتباع العواطف والأهواء الشخصية.
وإليكم بعض الشواهد التأثرية المعيارية التي تظهر الأحكام التي يصدرها الناقد وهي غير خاضعة للتعليل العلمي والمقاييس النقدية المضبوطة في الدقة والموضوعية:" فقد كانت لهذه التيارات الذاتية نهاية محزنة، على صعيدي المضمون والشكل، أما المضمون فلأنه انحدر إلى مستوى البكاء والأنين والتفجع والشكوى، وهي معان ممعنة في الضعف، تفصح بوضوح عما وراءها من مرض وتهافت وخذلان. وأما الشكل فلأنه فشل في مسيرته نحو الوصول إلى صورة تعبيرية ذات مقومات خاصة، ومميزات مكتملة ناضجة، وكان فشله تحت ضربات النقد المحافظ، الذي استمد قوته مما كان الوجود العربي التقليدي يتمتع به من تماسك ومنعة، قبل كارثة فلسطين".
فإصدار بعض الأحكام على التيارات الذاتية كالضعف والانحدار والمرض والتهافت والخذلان مجرد انطباعات ذاتية تحتاج إلى برهنة وتعليل، بل هي محاكمة إيديولوجية مسبقة ينقصها السند العلمي والبرهنة الموضوعية.
ومن أحكامه المعيارية الذاتية محاكمة بعض القصائد والآراء النقدية وتقويمها سلبا أو إيجابا بدون مستند علمي يقيني أو موضوعي كما في هذا النص النقدي الذي خطأ فيه الدكتور عز الدين إسماعيل:"ومعنى ذلك أن الدكتور عز الدين إسماعيل يريد من صور الأمل أن تكون نتيجة لمقدمات منطقية، تضرب بجذورها في الواقع الذاتي، والواقع الاجتماعي للشاعر. وعندي أن هذا الرأي صحيح حين ننظر إلى شعر البياتي نظرة جزئية، وحين نكتفي لإثبات رأينا، بمثل القدر اليسير من الشواهد التي أوردها الدكتور عز الدين إسماعيل. ولكنه خاطئ حين ننظر إلى شعره نظرة كلية، تدخل في حسابها الأعمال الشعرية، التي أنجزها الشاعر بعد" النار والكلمات"، وخاطئ أكثر من ذلك حين نطرح هذه الأقضية بوصفها قضية أمل ويأس، نخرجها بذلك من إطارها الفكري الشامل المتمثل في جدلية الحياة والموت."
وهكذا، يتبين لنا أن أحمد المجاطي في هذه الدراسة الأدبية النقدية كان انطباعيا تأثريا أكثر مما كان موضوعيا وصفيا؛ بسبب صدوره عن نية مسبقة تتمثل في كون الشعر الحديث هو الذي حقق التحول عن طريق تحقيق القطيعة الفنية والجمالية مع الشعر الإحيائي والشعر الذاتي اللذين بقيا أسيري الثبات والمحافظة والبكائية النائحة.
7/ المنهج اللغوي/ البياني:
نقصد بالمنهج البياني ذلك المنهج الذي يركز على تحليل مواصفات اللغة ودراسة بيانها وصورها البلاغية والبحث في الجوانب الموسيقية والإيقاعية والتركيبية والنحوية. أي إن هذا المنهج يعتمد كثيرا على علوم اللغة أو علوم الآلة التي تسعف المبدع في بناء نصوصه الإبداعية كالنحو والصرف والبلاغة والعروض وفقه اللغة. وهذا المنهج كان معروفا لدى الأزهريين كطه حسين ومصطفى صادق الرافعي والشيخ المراغي وغيرهم من النقاد الذين كانوا مشدودين إلى البلاغة العربية الكلاسيكية ومقومات اللغة العربية الفصيحة.
ومن الأمثلة الدالة على منهجه البياني اللغوي نصه النقدي التالي:" تتألف القصيدة من ثلاث دورات،كما يتضح من تقسيم الشاعر لها، تجري الدورتان الأوليان بين أداة الشرط"إذا" مع فعلها، وما يضاف إليهما من أدوات الشرط مع أفعالها من جهة، وبين جواب الشرط من جهة أخرى....هكذا تتوالى أفعال الشرط حتى تكتمل الصورة، وتستوي حية نابضة. ثم يأتي الجواب ليعلن موقف الشاعر منها، ومما تزخر به من حيوية وجمال، بجملة واحدة في الدورة الأولى، هي قوله" تململت مختنقا بالسأم"، وبجملتين في الدورة الثانية هما" يفح السأم"- و" يحتضن الموت يأس النغم".
وواضح أن موقف الشاعر المتمثل في جواب الشرط، أضعف من أن يمحو تلك الصورة الزاخرة بالحيوية من وجدان القارئ، على الرغم من قيامها على أداة الشرط المرتبطة بالمستقبل."
ويختلط المنهج اللغوي البياني بالمنهج الفني من خلال دراسة المكونات الفنية والجمالية للنصوص الشعرية المدروسة في الكتاب، بيد أن المنهج اللغوي البياني يتضح بكل سهولة في هذه الدراسة الأكاديمية عبر التركيز على العروض واللغة والنحو والصرف أثناء مقاربة الأبيات الشعرية وقصائد الشعراء المدروسين.
8/ منهج التلقي والقراءة:
يلتجئ أحمد المعداوي إلى منهج نقدي آخر ألا وهو منهج التلقي أثناء الحديث عن عزوف القراء عن الاهتمام بالشعر المعاصر أو مايسمى بشعر الحداثة، ويرجع ذلك العزوف والابتعاد إلى هيمنة الغموض في هذا الشعر؛ مما سبب في انفصال كبير بين المرسل والمتلقي، أو بين المبدع والقارئ. ومن الأدلة على وجود هذا المنهج قول الكاتب:" غير أن النصفة تقتضي منا أن نسجل بأن ثمة عدة عوامل حالت بين هذا الشعر وبين أن يصل إلى الجماهير العربية، ليتحول إلى طاقة جبارة، شبيهة بالطاقة التي اعتدنا من الكلمة الصادقة أن تفجرها في كل العصور".
بيد أن هذا المنهج قليل الحضور بين المناهج النقدية الأخرى الكثيرة الهيمنة كالمنهج الفني والمنهج الاجتماعي والمنهج التاريخي ومنهج القضايا والظواهر.
خاتمـــة
يتبين لنا من كل هذا أن أحمد المعداوي يشغّل في كتابه عدة مناهج نقدية في دراسته الأدبية النقدية، والتي تجمع بين الظواهر المضمونية والقضايا الشكلية في إطار رؤية تاريخية اجتماعية فنية يستحضر فيها الكاتب القارئ المتلقي لمعرفة سبب انعدام التواصل بين المبدع المعاصر والمتلقي الرافض للشعر الحداثي. ويعني هذا أن المجاطي كان يجمع بين الذاتي والموضوعي والوصفي والمعياري، ولكنه سقط في كتابه هذا في التلفيق المنهجي والانتقائية في مقاربة الظاهرة الشعرية الحديثة وعدم التدقيق في استخدام المصطلحات(مصطلح الشعر الحديث وما يثير من غموض على مستوى المفهوم)، كما كان ذاتيا حينما حاكم مجموعة من الحركات الرومانسية من خلال مفهوم الالتزام، بيد أن الشعر الحديث سقط بدوره في هذه الذاتية البكائية، ولكن المجاطي لم يحاكمها وبحث لها عن التبريرات والتخريجات الموضوعية والنفسية والوجودية. وهذا هو الذي جعل أحمد المجاطي يتناقض مع نفسه في الكثير من المواقف داخل هذه الدراسة النقدية الأكاديمية، وما كتابه "أزمة الحداثة في الشعر العربي الحديث" إلا دليل على ذلك عندما أعلن بكل يسر و سهولة إفلاس شعر التفعيلة ووجود أزمة خانقة في هذا الشعر الحداثي.
الإبتساماتإخفاء