الفصل الرابع: الشعرية والحداثة
إذا كانت الحداثة الشعرية قد ظهرت حسب أدونيس في القرن الثامن الميلادي مع أبي نواس والنفري وأبي تمام وأبي حيان التوحيدي فإنها ستتراجع مع سقوط بغداد على أيدي المغول، واشتداد حملات الصليبيين وسيطرة العثمانيين على الحكم في مختلف الأقطار العربية. لكن إشكالية الحداثة والتقدم أعيدت من جديد مع عصر النهضة منذ بداية القرن التاسع عشر حتى القرن العشرين. وقد نتج عن النقاشات النهضوية اتجاهان: اتجاه أصولي متشبث بالماضي ويرى أن الحداثة تتمثل في علوم اللغة العربية، واتجاه تجاوزي يرى أن الحداثة في تطبيق منجزات ومكتسبات العلمانية الأوربية. ولكن الثقافة السائدة والمهيمنة في المجتمع العربي كانت هي الثقافة الأصولية لأسباب اقتصادية واجتماعية وسياسية ودينية، ولاسيما أن السلطة تزكي هذا الاتجاه اللغوي والماضوي، وتحارب كل اتجاه علماني غربي يدعو إلى التغيير والدمقرطة والتحديث والخروج عن نظام السلطة الحاكمة.
ومن يتأمل الحداثة في جوهرها سيجدها هي خروج عن السائد السياسي والأخلاقي والمؤسساتي. أي إنها خروج عن السياسي والفكري و ثقافة الخلافة ونفي للقديم النموذجي. إن الحداثة حسب أدونيس ثورة وتساؤل ورفض وتحريك ووعي. والحداثة ليست هي الانغماس في الماضي بطريقة سلفية أصولية، وليست انبهارا بمستجدات الغرب التقنية والعلمية، وإنما هي نقد للتراث والبحث عن الجوانب الحداثية المضيئة فيه وغربلة له والاستفادة من العقل الحداثي ومنهجه. أي إن الحداثة موجودة في تراثنا الشعري عند أبي تمام وأبي نواس في الشعر، والنفري وأبي حيان التوحيدي في التصوف ،والجرجاني في النقد. ولكن المثقفين فهموا الحداثة فهما خاطئا مما سبب ذلك في أوهام نجملها في مايلي:
1- وهم الزمنية الذي يتمثل في ربط الحداثة الشعرية باللحظة الراهنة ، أي التعبير عن قضايا معاصرة؛
2- وهم الاختلاف عن القديم، وذلك بتناول ماهو جديد من الأفكار واختيار صيغ مخالفة للصياغة القديمة دون أن تكون شعرية حقيقية نابعة من الذات؛
3- المماثلة مع الغرب ، وذلك بتمثله والاقتداء به لتأسيس الحداثة الشعرية. ويعني هذا أن الغرب هو مصدر الحداثة، فلا حداثة خارج الشعر الغربي ومعاييره، أي لاحداثة إلا في التماثل مع الغرب؛
4- التشكيل النثري والمقصود به أن يتمرد الشاعر عن البنية الإيقاعية الخليلية ويتمثل الكتابة النثرية لخلق الحداثة الشعرية، بينما هناك نصوص إيقاعبة أكثر حداثة من القصيدة النثرية، والعكس صحيح أيضا؛
5- الاستحداث المضموني كما نجده عند شعراء النهضة كأحمد شوقي وحافظ إبراهيم ومعروف الرصافي، وذلك حينما تناولوا المخترعات الجديدة بالوصف كالسيارة والقاطرة و الثلاجة والطائرة...
ويدعو أدونيس إلى كتابة تاريخ حقيقي للحداثة الشعرية العربية ابتداء من القرن الثامن الميلادي حتى القرن العشرين، أي حينما ظهرت مجلة شعر باعتبارها تشكل الحداثة الثانية. ويعني هذا أن هناك حداثتين: حداثة قديمة مع شعراء التحول في العصر العباسي، وحداثة ثانية وجديدة مع مجلة شعر.
هذا،وإن الحداثة الشعرية عند أدونيس هي حداثة إنسانية تتجاوز التقني و العلم التقدمي المستقبلي والماضي الأصولي. إن الحداثة هي الزمنية واللازمنية، إنها التحول والإبداع والابتكار والتجديد، إنها نزعة إنسانية قائمة على تفجير المكبوتات واللغة الشعرية وانتهاك الظاهر بلغة الغيب والباطن . إنها الغرابة والغموض والإبهام ولغة الكشف واللانهائي واللايقين والعودة إلى الفطرة الأسطورية والطبيعة الإنسانية.