الفصل الأول: الشعرية والشفوية الجاهلية:
يرى أدونيس في الفصل الأول بأن الشعر الجاهلي يتميز بخاصية الشفوية، لأنه لم يدون ولم يكتب، بل اعتمد في نقله على الذاكرة والحفظ والرواية من جيل إلى آخر. ومن ثم، فالشعر الجاهلي شفوي قائم على ثقافة صوتية وسماعية. كما نشأ الشعر الجاهلي في بدايته نشيدا مسموعا لامكتوبا، مرتبطا بالغناء والإنشاد والموسيقى التي كانت تعبر عن ذاتية الشاعر وانفعالاته الوجدانية النابضة المتداخلة مع مشاعر الجماعة.
وبما أن الشعر سماعي في الشعرية الجاهلية، فقد كان الشاعر يولي أهمية كبرى للسامع، إذ كان يحرص على تجويد شعره و على تحسين قراءته الإنشادية من أجل التأثير على السامع وجذبه وإشراكه في معاناته وتجربته التي يتداخل فيها ماهو ذاتي وجماعي من خلال تصوير الحياة الجاهلية بكل قسماتها وأفراحها وأتراحها وانتصاراتها الحربية وهزائمها الدامية. وبالتالي، كانت طريقة التعبير أهم من المقول والمضمون؛ لأن الأذن هي التي تحكم على القصيدة وتقومها سلبا أو إيجابا. وكان الشعر الجاهلي يبلغ وينقل إلى الآخرين عن طريق الإنشاد والذاكرة. ونجاح الشاعر كان مرتبطا بموهبته وقدرته على التبليغ والإنشاد التي تستوجب الصوت وحركة الجسد والموهبة الفطرية في الإفصاح والتبليغ. وقد ارتبط الشعر بالغناء واللحن والموسيقى كما يتجلى واضحا في وحدة الوزن والقافية. وقد أشار أبو الفرج الأصفهاني صاحب كتاب الأغاني إلى صلة الشعر العربي الجاهلي بالغناء والموسيقى.
وعلى مستوى الإلقاء، كان من الشعراء من يلقي قصيدته واقفا أو جالسا أو يتزيى باللباس الجميلة أو يشغل أثناء الإلقاء صوته العذب وحركة اليدين وأعضاء الجسد كما كانت تفعل الخنساء. وقد سار الشعراء اللاحقون في محاكاة الشعراء الجاهليين السابقين في ارتداء الملابس الأنيقة والجميلة والظهور في أحسن مظهر. ومن الشعراء الذين كانوا يحسنون الإنشاد نستحضر الأعشى الذي لقب بصناجة العرب وعباد العنبري.
وإذا انتقلنا إلى الإيقاع في الشعر الجاهلي، فقد بدأ سجعا ثم أصبح رجزا بشطر واحد أو بشطرين لتكتمل الشفوية الشعرية بالقصيد الذي كان يرتكن إلى الوزن الموحد والقافية التي صارت مقوما جوهريا في الشعر وليس مظهرا زائدا. وقد أضفى إيقاع الوزن والقافية على القصيدة نوعا من التناسق والتنظيم والكمال الصوتي والانفعالي.
هذا ، وإن السجع لن يعود مقبولا بعد ذلك في المنظور الإسلامي؛ لأنه يذكر المسلمين بسجع الكهان، وهناك حديث مأثور ينص على ذلك هو:"إياكم وسجع الكهان". بيد أن هذه الظاهرة البلاغية البديعية ستظهر من جديد في العصور التالية للعصر الإسلامي الأول في الرسائل والخطب والمقامات والكتابة النثرية. وكان السجع المقوم الأساس في إغناء خاصيتي التغريد والغناء في الشعر القديم.
ومن يتأمل النقد العربي القديم سيجده مبنيا على الشعرية الشفوية الجاهلية كما يبدو ذلك واضحا في حركة التقنين التي مست جانب النحو والعروض وقضية السماع. أي إن النقد العربي تبنى معايير الشعر الجاهلي باعتبارها قواعد ثابتة وأصولا لا ينبغي انتهاكها كما يمثل ذلك عمود الشعر العربي للمرزوقي الذي لم يشر إليه أدونيس بشكل واضح . ولكن هذا التنظير للشعر الذي تم على ضوء الشعر الجاهلي استوجبه الامتزاج الثقافي بين الشعوب المنصهرة في العراق وخاصة في البصرة( الثقافة اليونانية- الثقافة الفارسية- الثقافة الفارسية- الثقافة العربية...). و ستدفع هذه المثاقفة العلماء للتفكير في التقعيد والتقنين للحفاظ على هوية الشعر العربي وهوية الشاعر وموسيقى الشعر. ونتج عن هذا أن وضع النحو العربي إعجاما وإعرابا من قبل أبي الأسود الدؤلي ونصر بن عاصم الليثي، ووضعت المعاجم اللغوية(معجم العين) من قبل الخليل بن أحمد الفراهيدي . وكان الهدف من كل ذلك هو الحفاظ على القرآن وتفادي ظاهرة اللحن التي تفشت بسبب الحضارة والمدنية وظهور المولدين والموالي. كما كان الدافع إلى وضع علم العروض على يد الخليل بن أحمد الفراهيدي هو تمييز أوزان الشعر العربي من الأوزان الشعرية المعروفة آنذاك( الهندية- الفارسية – اليونانية...). وقد قلنا سابقا إن الشعرية القديمة انبنت على السماع والتأثير على المتلقي. ويعني هذا أن الشاعر كان يراعي أفق انتظار السامع والعرف المشترك والذوق الشائع العام. لذلك صارت الصياغة الشعرية أهم من الأفكار والمعاني والمقول. فطريقة الإثبات والتعبير أهم من مدلولات القصيدة؛ لأن المعاني حسب الجاحظ مطروحة في الشوارع والأسواق، وإنما مدار الشعرية هو اللفظ والبيان التعبيري. وأساس هذا الفصل بين اللفظ والمعنى هو الشعر الجاهلي الذي كان يهتم كثيرا بالصياغة والتجويد الشعري من أجل إرضاء السامع وتلبية جاجياته الوجدانية والعقلية والحركية عن طريق التطريب والتأثير الموسيقي الناتج عن صرامة الوزن ووحدة الروي والقافية. وهكذا أصبح الشعر الجاهلي المصدر الأول للشعر العربي قديمه وجديده ومرتكزا للنقد العربي القديم الذي وضع معايير ثابتة الأصول من أجل تقنين الشعر للحفاظ عليه من الخلط واللحن والتهجين. ويطرح أدونيس عدة أسباب قد تكون وراء هذا التقعيد الذي قيد حركية الشعر العربي وطوقها بقيود الثبات والتأصيل مما أثر سلبا على اللغة الشعرية وعفويتها وروح إبداعيتها التخييلية وطبيعة الكتابة الشعرية التي تخالف جذريا خصائص الشعرية الشفوية. ومن هذه الأسباب: الموانع الدينية واللغوية والقومية والرغبة في الحفاظ على الهوية والخصوصية العربية و حماية هوية الشاعر العربي. ومن ثم، فما مقاييس الخليل العروضية إلا مقاييس أتت لتقيد الإبداع الشعري في نظر أدونيس .
وهكذا نستنتج أن النقد العربي القديم كون مقوماته النظرية والتطبيقية اعتمادا على الشعرية الشفوية الجاهلية، وبعد ذلك أصبحت قواعد صارمة ومطلقة يحتكم إليها النقاد في تقويم شعر المحدثين. ونتج عن هذا رؤية واحدة تجاه الشعر وخاصة إلى الشعر الجاهلي، لكن اليوم هناك منظورات نقدية متعددة ومختلفة إلى الشعر الجاهلي . ويعني هذا أن التقنين أساء إلى النقد العربي والشعر العربي معا؛ لأنه لم يصغ إلى الحرية الشعرية والاختلاف الإبداعي. يقول أدونيس:" ونحن اليوم، إذ نقرأ ماضينا الشعري، فليس لكي نرى ما رآه الخليل واللاحقون، وحسب، وإنما لكي نرى ماغاب عنهم ومالم يروه. نحن، اليوم، نقرأ الفراغ أو النقص الذي تركوه. خصوصا أن التقنين والتقعيد يتناقضان مع طبيعة اللغة الشعرية. فهذه اللغة بما هي الإنسان في تفجره واندفاعه واختلافه، تظل في توهج وتجدد، وتغاير، وتظل في حركية وتفجر؛ إنها دائما شكل من أشكال اختراق التقنين والتقعيد. إنها البحث عن الذات، والعودة إليها، لكن عبر هجرة دائمة خارج الذات....إن الخطاب التقعيدي، الواحد، المتواصل، يخفي وراءه صمتا، وغيابا، ونقصا. ونحن اليوم مدعوون إلى ممارسة قراءة لتراثنا النقدي الشعري، تكشف عن الغياب والنقص، وتستنطق الصمت.".(ص:31-32).
الإبتساماتإخفاء