الفصل الثاني: الشعرية والفضاء القرآني:
إذا كان الخليل بن أحمد الفراهيدي المنظر الأول للشعرية الشفوية الجاهلية على مستوى الإيقاع العروضي، والجاحظ هو المنظر لها على المستوى اللغوي وذلك حينما فصل اللفظ عن الفكر وفضل أمة العرب على سائر الأقوام بفصاحة العربية وبلاغتها الرائعة، فإن القرآن الكريم سينقل الشعرية العربية من الشفوية إلى الكتابة وسيخلق حركة ثقافية وإبداعية لانظير لها من خلال ماكتب عن القرآن والمقارنات بين النص القرآني والشعر الجاهلي الذي يمثل طريقة العرب في الكتابة الشعرية الأصيلة. كما أن القران ساهم في بلورة الشعر الحداثي وخلق الكتابة الشعرية الصوفية؛ لأنه كان متناصا حقيقيا في تجويد الكتابة وتعميقها واستوائها فنيا ودلاليا ومقصدية.
ومن مظاهر هذه الحركة الثقافية القرآنية ظهور دراسات وكتب تحاول أن تقارن بين القرآن الكريم والشعر الجاهلي على جميع الأصعدة والمستويات اللغوية والتركيبية والبيانية والبلاغية والدلالية لتنتهي في الأخير بأن النص القرآني أفضل بكثير من النص الشعري السابق له؛ لأنه يمثل إعجازا في الفصاحة والبلاغة والتشريع والثقافة على الرغم من أن النظام المعتزلي أعلن أن"نظم القرآن ليس بمعجزة، فإن العباد قادرون على مثله، وعلى ما هو أحسن"(ص41). ومن هذه الكتب نستحضر كتاب أبي عبيدة" مجاز القرآن"، وكتاب معاني القران للفراء ، وكتاب البيان والتبيين للجاحظ، ومشكل القرآن لابن قتيبة، والنكت في إعجاز القرآن للرماني، وبيان إعجاز القرآن للخطابي، وإعجاز القران للباقلاني. ولم تكن الدراسات المقارنة ذات بعد ديني فقط، بل قام بعض اللغويون والنقاد بدراسة النظم القرآني والنظم الشعري الموجود في الشعر الجاهلي كما نجد ذلك في جمهرة أشعار العرب لأبي زيد القرشي، ونقائض جرير والفرزدق لأبي عبيدة، ومعاني الشعر للأشنانداني، وكتاب الصناعتين لأبي هلال العسكري.
وعليه، فقد ساهم القرآن الكريم في قراءتين:
أ- قراءة تستهدف إثبات طريقة العرب في الكتابة وتحديد مواصفاتها القائمة على عمود الشعر العربي، وهذه الطريقة مهما كانت بيانيتها فإن النص القرآني يتفوق عليها ؛
ب -طريقة تهدف إلى الانتقال من الشعرية الشفوية إلى شعرية الكتابة.
وقد أصبحنا بعد ذلك أمام نصين نموذجين: نص قرآني يجمع بين الطرح الديني ويقدم تصورا بيانيا جديدا، ونص شعري جاهلي دون مستوى النص الأول يتسم بالفطرة والبداوة والأصالة والطبع والوضوح.
وينتج عما سبق أن" النص القرآني كان في هاتين القراءتين، وفي جميع الحالات، أساس الحركية الثقافية الإبداعية، في المجتمع العربي الإسلامي، وينبوعها ومدارها. غير أن القراءة الثانية هي التي مهدت، كما أرى، للنقلة من الشفوية الشعرية الجاهلية إلى شعرية الكتابة. وبهذه القراءة، وفي مناخها صاغ الجرجاني مبادئ الشعرية الكتابية،فيما كان يصوغ نظرية النظم القرآني. وكان قد مهد لها بعض النقاد، خصوصا الصولي(توفي سنة 336هـ)."(ص42).
وسيفتح القرآن آفاقا رحبة وواسعة أمام الشعراء لابتداع كتابة شعرية جديدة تمتح من البديع القرآني وفصاحة النظم الرباني بلاغة وبيانا وتصويرا( بشار بن برد،و مسلم بن الوليد، وأبو نواس، والمتنبي، وأبو العلاء المعري، و أبو تمام)، وتأسيس نقد حداثي حقيقي ومنهجي مع الصولي الذي يقدم أول دفاع شبه متكامل عن شعرية الكتابة(طريقة أبي تمام) أو الطريقة المحدثة في مقابل طريقة العرب أو الطريقة القديمة. وتقوم الطريقة الحديثة عنده على ابتكار معان جديدة وتحقيق جودة النص الشعري في ذاته والابتعاد عن معيار الأسبقية الزمنية في التقويم الشعر، و لاننسى كذلك الناقد عبد القاهر الجرجاني صاحب كتابي دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة الذي أسس شعرية النظم والمجاز والغموض.
هذا وسيؤسس الصولي كتابة نقدية تنظر لشعرية جديدة تستند إلى المقومات التالية:
1- الكتابة دون احتذاء نموذج مسبق؛
2- اشتراط الثقافة العميقة الواسعة لكل من الشاعر والناقد؛
3- النظر إلى كل من النص الشعري القديم والنص الشعري المحدث لا على أساس السبق الزمني، بل على أساس الجودة الشعرية الذاتية؛
4- نشوء نظرية جمالية جديدة تعتمد على الغموض والغرابة بدلا من الوضوح والألفة؛
5- إعطاء الأولوية لحركية الإبداع والتجربة وتجاوز ماهو عادي ومشترك ومألوف.
ويعد أبو نواس خير من عبر في نصوصه الشعرية عن أفق الشعرية الجديدة، إلى جانب أبي تمام على مستوى الكتابة الشعرية، وعبد القاهر الجرجاني على مستوى النقد الذي تحدث كثيرا عن النظم المجازي الاستعاري باعتباره جوهر الشعر وأسه الحقيقي.
الإبتساماتإخفاء